قصة شعار قوديفا ومعلومات عنه

أ / عمرو عيسى

في القرن الحادي والعشرون لا تزال قصة شعار قوديفا تثير الأذهان حول صورة المرأة العارية التي أصبحت رمز للتضحية والإنسانية.. فعلى خلاف صور النساء العارية التي تثير الغرائز والشهوات..

أو تثير مقت البعض جاءت صورة قوديفا لتثير التعاطف وتجعل كل منا يتساءل عن إنسانيته إن كان في محل قوديفا..

قصة شعار قوديفا 

قصة شعار قوديفا 

شعار قوديفا كما نرى في الصورة هو عبارة عن صورة لامرأة عارية تركب على حصان منكسة الرأس تستغل شعرها الطويل في ستر نفسها..

القصة التي خلف هذا الشعار يذهب الكثيرون إلى أنها حقيقية ولا يزال يتم إحياء ذكرى الليدي قوديفا بالاحتفالات في نفس المكان كل عام.

القصة تحكي عن الليدي قوديفا زوجة اللورد ليوفريك الذي كان يحكم مقاطعة إنجليزية تدعى (كوفنتري) .. كانت هي من أعيان إنجلترا وتمتلك أراضي شاسعة في الدولة.. أما زوجها اللورد الحاكم كان طاغية مستبد لا يهتم للعامة مثقال ذرة.

الأمر لم يتوقف فقط على تهمة الإهمال بل الاستبداد والظلم والأنانية في صورة واضحة من صور المفسدون في الأرض على مقاعد السلطة.

كان ليوفريك يجمع الضرائب من العامة كما يجمع النمل كل الفتات في طريقه استعدادًا لبياته الشتوي.. ثم ازداد الأمر ففرض يومًا الضرائب الباهظة التي لا طاقة للشعب بها حتى إن أعيان المقاطعة جاءوا إليه مرارًا طالبين التخفيف عن الناس.

كان المحكومين لا حول لهم ولا قوة بسبب سلطة حاكمهم المستبد وكل ما استطاعوا فعله هو محاولة الاعتراض والتوسل أن يصغي إليهم ويخفف عنهم الضرائب.. ولكن كل التوسلات كانت تقع على أذن صماء.

الجشع في حشد ضرائب باهظة كان ناتج عن رغبة اللورد في ملئ جيوبه بأموال الفقراء والشعب.. أما الظاهر من القول فكان يقول إنه يجمع الضرائب لمولاه الحاكم (الملك كانوت الدانماركي) ويرسلها إليه.

كانت الليدي قوديفا رحيمة على خلاف زوجها؛ تهتم لأمر الشعب تشعر بآلامهم وتتعاطف معهم.. فلم تقصر الليدي قوديفا في حق الناس.. بسبب أوامر زوجها بل ألحت على زوجها دون يأس أن يخفف عن الناس.

شعار قوديفا صدام الرحمة بالطغيان

أرادت Godiva من زوجها إلغاء الضرائب أو تخفيفها بحيث لا ترهق الناس ويكون الأمر بالمستطاع.. إلا أن الحاكم كان من الصم البكم العمي الذين لا يعقلون وأثر الاستبداد على التقوى.

ذات يوم من كثرة إلحاح شعار قوديفا انفجر اللورد بغضب قائلًا إنه يوم تمشي عارية في شوارع (كوفنتري) سيكون اليوم الذي يلغي فيه الضرائب.. كان اللورد يعلم مقدار خجل زوجته وعفتها؛ لهذا لم يشك لحظة أنها ستفعلها بل كان شرط تعجيزي حتى يتخلص من إلحاحها.

ترددت شعار قوديفا وفكرت مليًا في أمرها ثم عقدت العزم على أن مصلحة الضعفاء أسمى وتستحق التضحية من أجلها.. وقررت أن تمشي عارية فعلًا في شوارع ( كوفتري ) راكبة على حصانها كما قال اللورد.

قوديفا عارية في شوارع Godiva

تخلت الليدي عن ملابسها وأعد الخدم لها الحصان وركبت قوديفا في شوارع المقاطعة متجردة من كل شيء إلا شعرها الطويل.. الذي كان نعمة إلهية تحاول بها تغطية مفاتنها قدر المستطاع مطأطأة الرأس بخجل ناظرة إلى الأرض.

إلا أنه لم يكن هناك حشودًا فرحة بمشاهدة الأميرة العارية بل التزم الناس بيوتهم محبة للأميرة واعترافًا بفضلها عليهم.. فكما تعرت هي من أجلهم غضوا هم الأبصار والشهوات من أجلها.

كما يقال إن الأميرة أرسلت حراسها قبل يوم المسيرة إلى بيوت الناس تطلب منهم التزام منازلهم.. وذهبت أقاويل أخرى أن اللورد زوجها أندهش من موافقة زوجته وكان يظن لآخر لحظة إنها ستتراجع.. لكنها لم تتراجع والتزم الناس بيوتهم حتى تمر الأميرة.

شهوة العامة

شهوة العامة

نعم التزم العامة بيوتهم ولم يجسر أحدهم على اختلاس نظرة على الأميرة إما احترامًا وعرفانًا بالجميل.. وإما مخافة من العقاب في روايات أخرى.. إلا أن أحدهم لم يستطع كبح جماح نفسه وعندما ذاع الخبر ثقب في منزله ثقف صغير يتلصص به على الأميرة العارية التي تجوب الشوارع.

ذهبت روايات إلى أن هذا الرجل أصابه العمى الفوري بعد اختلاس النظر إلى الأميرة كعقاب من السماء على فعلته لكننا نعلم أفضل من ذلك.. فالعقاب الإلهي لا يتم بهذه الصورة الطفولية المسرحية .. وتذهب أقاويل أخرى إلى إنه تم كشف أمره وعوقب على فعلته بفقع عينيه.

مع الوقت.. لم تعد تذكر الليدي قوديفا دون ذكر الخياط الذي تلصص النظر إليها من العامة.. وتداولت هذه القصة عبر القرون حتى وصلت إلينا.

تعددت الأقاويل حول الزمن الذي عاشت فيه قوديفا .. فذهب البعض إلى أن ذلك كان زمن الوثنيين.. ثم أضافت عليه الكنيسة بعد انتشار المسيحية.

كما يشير البعض إلى أن القصة تمت القرن الثالث عشر الميلادي والبعض يقول أنها في القرن الحادي عشر .. آخرون يذهبون إلى أن القصة حدثت عام 1066 ميلاديًا تحديدًا.. لكن أيًا كان الزمن فقد تم تخليد اسم السيدة التي كانت مثال للإنسانية.. وإيثار الغير على النفس.

رفع الضرائب عن الناس

بعد انتهاء المسيرة.. خرج الشعب في الشوارع مهللين سعداء شاكرين للأميرة حسن صنيعها معهم.. الأمر الذي أدهش زوجها الذي لم يتوقع أن تلتزم زوجته الرزينة الخجول بالمسيرة لنهايتها.. وأضطر إلى الالتزام بوعده ورفع الضرائب من على الشعب فكانت المسيرة مدعاة للاحتفال.

النظرة إلى قوديفا

ينظر العالم إلى أن قصة لوجو قوديفا رمز للتضحية والإنسانية والإيثار.. ولكن بعض المتدينين باختلاف ديانتهم.. قد ينظر إليها بمقت شاعرًا بالتدليس وقلب الحقائق حول منح صورة امرأة عارية الترميز والإجلال.

إن معايير الزمن الحالي تختلف عن القرون الوسطى والأزمان البعيدة.. فاليوم على الرغم من كون العالم أصبح قرية صغيرة نعرف فيها عادات جيراننا من الشعوب ونعرف نسبية التعريفات الأخلاقية بين الشعوب إلا أن التصادم بل والنفور من بعض الثقافات لا يزال قائمًا.

فماذا عن القرون التي لم تحتل فيها الأخلاق المكانة التي تحتلها اليوم؟ وعلى الرغم من إباحة أشياء في القدم لا يمكنها أبدًا أن تحدث الآن كأن يسمح الرئيس لزوجته أن تسير عارية بل ويتحداها لفعل ذلك فقد كانت قوديفا رمز للعفة والطهر في زمانها وزماننا.

يمكنك تخيل أميرة تتخذ من الحياء والخجل ثوب لها ثم تجد نفسها أمام معضلة أخلاقية تختار فيها بين نفسها وشعب كامل لا حول له ولا قوة أمام حاكم مستبد يتخذ من الجور والطغيان أساسًا لملكه.

لم تكن قوديفا امرأة لعوب تتباهى بنزع ملابسها والسير عارية بل يمكنك أن تنظر للصور التي جسدت الواقعة لترى امرأة منكسة الرأس تحاول إخفاء عوراتها بشعرها الطويل غير سعيدة بما يحدث لذا جاء ترميز قوديفا مستحقًا.

كما إنه إن كان هناك مذنب يجب أن يشار له بالمقت فهو الحاكم الظالم والزوج المستبد الذي دفع زوجته أن تكون بين المطرقة والسندان.

أخلاق قوديفا واحتفالات القرن الـ21

يقال إن شعب كوفنتري شرع يتخذ من تاريخ الحادثة احتفالًا برفع الظلم عنهم وتم عمل احتفالات وألعاب ورسومات ترمز لمسيرة ذاك اليوم.. ويذهب بعض الناس إلى أن الأميرة أواخر حياتها كانت تشارك الشعب هذه الاحتفالات.

إن ما قامت به لوجو قوديفا كان تضحية وإنسانية من امرأة تسعى لستر نفسها ولو بشعرة.. لكن احتفالات القرن الـ21 عند بعض القرى في إنجلترا التي لا تزال تحتفل بالمسيرة حتى اليوم في شهر حزيران لا تمت للحياء أو الخجل أو الاحتفال برفع الظلم بصلة.

فتجد بعض النساء يتحررون من ملابسهم وينزلون للشوارع.. راكبين على أحصنة كيوم ولدتهم أمهاتهم مفتخرين بقوديفا مهللين سعداء غير شاعرين بآثم عريهم.. والذي كان تضحية عند قوديفا وليس دعوة للتفاخر.. الأمر الذي يعطيك مثالين لنفس الفعلة ولكن شتان بين الأمرين.

أما عن المظاهر الحميدة التي تتبعها بعض الأماكن في الاحتفال فهي تمثال خشبي منحوت تم وضعه في شارع رئيسي من شوارع (كوفنتري) يجسد قوديفا والخياط الذي اختلس النظر إليها من عامة الشعب ليظهر كرمز للشهوانية.

معنى اسم قوديفا

اسم (قوديفا) أو Godiva يعني هبة الله .. ويبدو أنه كان للأميرة قوديفا حظ من اسمها فهي فعلًا كانت هبة الله لشعب مكلوم مضمضة جراح الناس التي قطعها سيف حاكم مستبد.

شوكولاتة قوديفا

شوكولاتة قوديفا

قرر صاحب شركة Godiva للشيكولاتة أن ينتج مصنعه نوع من الشيكولاتة البلجيكية المعروفة حول العالم بطعمها الذي يسلب الألباب.. قرر أن يجعل الشيكولاتة دسمة غنية ذات مذاق لا ينسى وأراد اسم مناسب للمصنع.

فكر المؤسس باسم يجمع بين قيم وأخلاقيات ذات معنى وتكون جريئة على شيء من العصرية والحداثة في آن واحد.. ولم يجد مؤسس هذه العلامة التجارية خير من الأميرة قوديفا ليتخذها شعارًا لشركته.

شوكولاتة قوديفا

اشتهرت الشركة عالميًا بالشوكولاتة التي تثير اللعاب ولكن ساعد في شهرتها حكاية لوجو قوديفا الذي منح للعلامة التجارية عمق ومعنى.. تأسست الشركة عام 1926 واحتفلت مؤخرًا بذكرى تأسيسها التسعون.

كان احتفال الشركة بتصميم ثمانية قطع من الشيكولاتة على كل منها رسمة ترمز لشيء ما.. وتحكي قصة خاصة بها فمثلًا قطعة الشيوكولاتة التي مرسوم عليها رمز الأسد فهي رمز لاعتماد العلامة في الديوان البلجيكي الملكي عام 1968 .

القراء الذين اضطلعوا على هذا الموضوع قد شاهدوا أيضًا..

قصة شعار أبل Apple الحقيقية ومراحل تطوره

قصة شعار نادي روما AS Roma وأسطورة الطفلين البشريين

إلهام قوديفا

إن القصة لم تتوقف على إلهام صاحب مصنع الشيكولاتة الشهيرة بالشعار الذي حقق لها نجاحًا باهرًا وساعد في الانتشار العالمي للماركة.. بل تم تأسيس برامج تلفزيونية تتخذ من معنى لوجو قوديفا رمزًا عما يدور حوله البرنامج.

جاءت هذه البرامج مستضيفة السيدات التي يتمتعن بروح الإثار والإنسانية التي كانت تتمتع بهم الأميرة ويستعرضون أعمالهم وتضحياتهم.. ليكونوا مثال أمام الناس مع إحياء لذكرى السيدة التي بدأت سيرتها في الألفية الجديدة تتلاشى تدريجيًا.

ألهمت قصة شعار Godiva  الفنانون والشعراء على مر الزمان.. فمنهم من ألف الكتب والروايات عنها ونستعرض الأمثلة على ذلك في الآتي:

  • نحت لها جون توماس تمثالًا.
  • روى عنها دانيال ديفو.
  • ألف الشعر عنها الشاعر (الفرد تيتيسون).
  • جسدها كل من (جورج واتس.. وآدم فان نورت) في بعض أعمالهما الفنية.
  • عالم النفس الغني عن التعريف سيجموند فرويد.
  • تم إنتاج أعمال سينيمائية حول قصتها.

أما عن أشهر شخص جسد عمل عن معنى حكاية شعار قوديفا كان الفنان جون كوليير عام 1898 في لوحته الشهيرة.. التي جسدت قوديفا العارية على حصانها الأبيض المغطى بالكامل بالقماش.

عفة قوديفا كان العنصر الطاغي على اللوحة فخجلها ورأسها المطأطأ وشعرها التي تحاول التستر به لم يكن الانطباع الوحيد بالخجل والانكسار.. بل ظهر ذلك أيضًا في حرصها على ستر الحصان الذي تركبه.

من أسباب شهرة اللوحة هو أنها صور لامرأة عارية ولكن تثير العطف لا الشهوات.. واكتسبت اللوحة شهرة واسعة ولا تزال اللوحة عمل فني يثير الإعجاب إلى اليوم.

اللوحة مرسومة بالزيت على القماش.. وهي موجودة حاليًا في متحف ( The Herbert ) في دولة إنجلترا تحديدًا في ولاية (كوفنتري) التي حدثت فيها الواقعة.

فرويد وقصة قوديفا

عندما نذكر فرويد وقوديفا علينا التحديث بشيء من التفصيل الوجيز.. فقد ألهمت حكاية شعار قوديفا العالم سيجموند فرويد واستخلص منها مفاهيم في نظرياته بناءً على تصور مسبق حول طبيعة النفس البشرية.

صور فرويد قوديفا رمز للعفة التي تنتج عن الأنا الأعلى.. (وهي النفس التي تحث الإنسان على الالتزام بمعايير الأخلاق والشرف).

كما جسد الخياط مختلس النظر إلى قوديفا برمز الشهوانية في النفس عند العامة.. ومع الوقت أصبح هذا الرجل رمز لشهوانية الإنسان.. لأنه نموذج لاستسلام الإنسان للهو (وهو الجزء المسئول عن حث الإنسان على الاستمتاع باللذات دون اكتراث بالعواقب).

فجاءت الصورة المشهورة لقوديفا والخياط مختلس النظر يبين صورة واضحة عن الفرق بين الأنا الأعلى والهو وتأثيرهم على الناس.. إلا أن نظرة فرويد لا تقتصر على هذا الشرح البسيط ولكن يستشف منها فرويد ما هو أعمق من هذا ويوجه هذا التحليل أكثر للمتخصصين.

تناقضات معاني شعار قوديفا

هذه القصة مليئة بالتناقضات.. فالمفارقة الأولى أن قوديفا امرأة تحترم زوجها وتطيعه.. إلا أن هذا لم يغطي على رحمتها ونظرتها العادلة للأمور التي جعلتها تتحداه في الظلم لمصلحة الشعب.

المفارقة الثانية هو أن قوديفا نفسها أميرة وهي من صفوة الطبقة الحاكمة وتعيش في مجتمع استبدادي لا يرأف بالضعيف.. ويمكن للحكام فعل ما يشاءون دون عقاب إلا أنها رغم كل هذه وحياتها المرفهة كانت تشعر بآلام الفقراء وتتعاطف معهم وتفهمهم ودفعت لذلك ثمن باهظًا.

أ / عمرو عيسى

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *